-->
U3F1ZWV6ZTM4NzkwMzQ5ODA4X0FjdGl2YXRpb240Mzk0NDExNDQwNzM=
الاتحاد
random
أخبار ساخنة

"قيامة البتول.." للروائي زياد حمامي عودة التاريخ الماكر وصراع الوجود • توفيق بن حنيش - تونس

 


تقول الآية في الإنجيل متحدثة عن ردّ المسيح على حوارييه الذين وضعوا أصابعهم في أنوفهم اتقاء لرائحة الكلب الميت:" ....ألا ترون أنّ أسنانه بيضاء؟" نعم إنّ لأسنان الكلب البيضاء قدرا من الجمال ينسينا لبعض الوقت ,على الأقلّ,رائحة جيفته. وكذلك الحرب التي يبدو أنها لا تعترف بالقيم والفضائل ولا ينتظر من ورائها نصر حقيقيّ خالص  ولا تخلّف غير الدّمار والآمال الكاذبة للضحايا والجلادين في نفس الوقت. لكنها رغم كل ذلك القبح الذي لا تنازع فيه, فإنّ بياض أسنانها وأنيابها المتمثل في  اعتبارها دافعا للوعي بمنزلة الإنسان وبما تفتحه من ممكنات الإبداع على أنقاض دمارها تضطرّ الأديب والفنّان والمفكّر لإعادة ترتيب عناصر كونه على ضوء معايناته لفظاعاتها .

إنّ ما يحدث اليوم من زلازل في الرقعة العربية الغافلة شعوبها لا يمكنه إلاّ أن يُحبل المستقبل بما من شأنه أن يقطع مع رتابة الرّداءة. ولنا في ما وقع في سوريا دليل على أنّ التاريخ يثأر لنفسه كلّما حاول الإنسان تناسي مآسي الماضي. ومثل محارب ماكر يجدّ التاريخ في إيغار صدور الناس لينفخوا في ما خبا من نيران الحقد والجشع ليثأروا لأنفسهم من بعضهم.

   إنّها الحرب "الأهلية" في سوريا التي  يشير إليها الكاتب زياد كمال حمّامي في الصفحة 130 من الرواية  بقوله" كأنّه يرفض الحرب الأهليّة".  ويصفها في موضع سابق من الرواية بأنها "ثورة" حيث يقول في صفحة 120 " ومع بداية أحداث الثورة..." فهل كان الكاتب معنيا بما فيه الكفاية باتخاذ موقف مما جرى في سوريا؟  

لماذا عودة التاريخ؟ وكيف تكون هذه العودة ماكرة؟

إنّي أعني بعودة التاريخ صلة  المسائل المثارة في "رواية قيامة البتول" ,في أغلبها على الأقل, بمرجعيات وقضايا لها جذور تاريخية ما انفكّت تحرّك وعينا الراهن بالوجود في مستواه السياسي والاجتماعي والعلائقيّ. وأقصد بالصفة "ماكرة"  فكرة الصراع الذي لم تخمد ناره منذ ما يقارب الأربعة عشر قرنا من الزمان.  والصلة التي تحكم علاقة التاريخ بالمكر صلة تقوم في جوهرها على ذلك الرصيد الوفير من ثنائيات الفعل والانفعال(أو ردّ الفعل) والسلم والحرب وظاهر السلوك وباطنه بين الرغبة في السّلم والتعايش والتّوق إلى الغزو والثّأر.  

وحينما نقرأ "قيامة البتول" تعترضنا تلك الشبكة المعقّدة من الشخصيات البشرية والحيوانية وحتى الجمادات (ساعة , سور,,,). وفي اعتقادي فالشخصيّة (وهي في الأصل القناع الذي يكون وجها مستعارا )  سدى الحكي ولحمته الأحداث التي تنجزها الشخوص وما يُلقَى بينها من علاقات تنوس بين التعايش حينا من الزّمن والتقاتل في أغلب الأحيان. 

ولقد ارتأيت أن أتوقّف عند هذا المقوم السّرديّ الذي لا تقوم عمارة الرواية إلاّ به.  فشدّني في الأمر إصرار الكاتب على أن ينسج نصوصه ويقدّ أفكاره (في هذا الأثر) من معين التّاريخ الذي هو ميزة البشر التي لا يشاركهم فيها كائن غيرهم. ومن جوهر نواة التاريخ يبحث شخصيات اعتبارية رمزية ليفسح لها في مجال الفعل السّردي.

فلننظر معا إلى معمار الحكاية من جهة طبيعة فواعلها وبرامجها, إنّ المادة التي امتيحت منها الشخصيات مادة معاصرة في ظاهرها ولكنّها في الحقّ صدى لتاريخ سحيق ماكر يلبس أقنعة الواقع(عبد السلام النحات, أبو الرمز , أبراهام فارحي السوري اليهودي, الحاج عبد القادر الهلالي (رمز الوعي القومي), وشخصيات اعتبارية أضفى عليه السّارد حياة  ونفخ فيها الروح كما ينفخ عبد السلام الرّوح في تماثيله  التي تقرّبه من تاريخ الشّام زلفى, وهي من الجمادات (سور حلب  والسّاعة مثلا). فهذه الشخصيات يبدو سداها الواقع ولحمتها التّاريخ. 

إنّ شخصية الفلسطيني أبي الرمز, أستاذ التّاريخ, لا تجشم  الدّارس كبير الجهد لمعرفة مَعِينِه الذي يرده ومراجعه التي يحتكم إليها. فهو أستاذ التّاريخ وصاحب المفتاح. وهو .إضافة إلى ذلك, رجل مثقف مثقل بالهزائم ومهجر من أرضه . ولذلك كانتح صلته بالتاريخ وطيدة. واختار التّدريس  ليؤكّد لنفسه وللعالم أنّه لا ينسى بيته الفلسطينيّ المغتصب وسيظلّ ماثلا علامة على الصمود حتى عندما يستبيحه الصهاينة ويغتصبونه. فالمفتاح . بهذا المنطق, يتحول إلى رمز بل إلى عقيدة تتجاوز الأحداث. وفي المقابل الهندسي التناظري يظهر أبراهام فالحي ,تلك الشخصيّة المعقّدة التي عمل الكاتب على إبراز مخبرها المخالف لمظهرها. إنّه اليهودي  الذي" يحتفظ بنسخ قديمة من التوراة" (ص 13) . فأبراهام هذا العبرانيّ المرحب به في دولة (لائكية )إلى حدّ ما,  يعيش حياة طبيعية. و ينجح في استدرار عطف القارئ في البداية كما نجح في بناء علاقات طبيعية جدّا مع الحلبيين قبل الحرب. ثم يبدأ, مع التقدم في السّرد, في فقد السيطرة على نوياه التي تنفلت منه رغما عنه وقد استسلم لمكر التاريخ وحسابات الماضي. ويشرع السّارد في نقل برنامجه وخططه لتتحول علاقته بعبد السّلام من علاقة صديق بصديقه ونسيب محتمل يرنو ببصره إلى ليزا التي " تربطها علاقة طفولية مع عبد السّلام" (ص 13)إلى علاقة صياد بفريسته التي أوقعها في شباك الماسونية. وليكشف عن برنامجه لليزا في أواخر الرواية قائلا:" نحن أقلية مضطهدة يا ليزا. لا شعاراتهم هي شعاراتنا ولا قضاياهم قضايانا"(ص 228). وهو بذلك يقطع كلّ روابطه بالواقع ويعود ناكصا على أعقبه ليحشر نفيه في التاريخ. وليساهم في لعبته الماكرة التي سيكون هدفها إيقاد ما خبا من جمر الحرب في سوريا.

إنّ في شخصيّة "أبرهام فارحي" تثوي كلّ الخطابات التّاريخية الموغلة في الزمن الماضي والتي لا تقوى السنين والقرون على محوها أو حتى التخفيف منها. فهذا الصهيوني الذي ظلّ يقدم نفسه على أنه يهوديّ سوريّ أصبح هو نفسه فريسة للتاريخ الماكر. فقد مزّق عن اختيار ووعي كلّ الروابط التي تجمعه بسكان حيّ البندرة. وأنشأ يخطط للانتقام من سكانه ولاستعبادهم واستثمار غفلتهم. والثّأر من احتقارهم لليهودي من خلال موقف أطفال الحيّ وحتى كباره من ليزا التي كانت تتلقى شتيمتهم "الله يلعنك يهودية" (ص228).

لم يعد للتاريخ عود أحمد. ولم يحكم عقله لأنه في الحقيقة خلاصة عقول الفاعلين في تقاطعها مع اللحظات التاريخية الحاسمة المؤثرة. فالحرب التي قامت في سوريا ضمت في جحيمها كلّ من له ثأر يريد تنفيذه. فالحرب , كما صورها زياد كمالحمّامي , من تدبير يهوديّ صهيونيّ وهدفها الانتقام والثّأر لعذابات مزعومة يدعي اليهود عامة والصهاينة خاصة أنهم كانوا ضحيتها. ويزعمون أنهم أخرجوا من أرض الميعاد والجنة الموعودة. ويرون أنهم لم يغتصبوا أرضا في سنة 48 وما بعدها حتى اليوم. والاغتصاب في هذا العمل الروائيّ نواه العمل الصّلبة التي تتولد منها الحداث والفكر والصور.

ولم يسلم عبد السلام من مكر التّاريخ ومحاولاته حرف المعركة وتأويلها ثأريا. فها هو ,هو نفسه , يعود إلى ذات التاريخ وذات المعارك التي لم يعشها واكتفى بالسماع عنها من أكابر الحيّ من الفلسطينيين المهجرين. وفي فترة سماعه للأخبار يعود به الخيال إلى عام 1948 ويقول:" بعد هزيمة حرب 1948م مع عصابات الكيان الصهيوني ....وزير دفاع حكومة جميل مردم....وكان الاتهام لوزير الدفاع بالمسؤولية الكبرى عن الهزيمة.."ص 238

 


بالفنّ يعالج عبد السّلام مرارة واقعه وتدهور المنزلة الإنسانية. وبالفنّ ىنطلق في فهم واقعه فهو النحات الذي يخلق. وبهذا الخلق يواجه مؤامرة هدم المدينة وتدمير ساعتها التي ترمز للوقت . والوقت علامة على علاقتنا بالعصر. ومن المؤسف بالنسبة إلينا نحن العرب أن نجد أنفسنا في أغلب الأوقات خارج الزمن وعلى هامش التّاريخ.  التاريخ مرّة أخرى... 

 إنّ هذالتّاريخ الذي يصرّ على الظهور فاجرا ماكرا يقحم عبد السلام في دهاليز المكائد التي أوقعت به فريسة في فخّ أبراهام" وقد أوقعت به "ليزا" الطعم الشّهيّ الجذّاب. ويقع النحات في المصيدة  ليفتح له "أبراهام" باب الغرفة السرية الأخرى . التفت إلى عبد السلام ورمقه بنظرات حادة. ثمّ أشعل شمعة كبيرة الحجم" (ص 280) ولكن ليس ليضيء الدّرب لهذا الضيف الذي يدّعي أنّه يصنع الحياة ويقدّ من الصّخر ذوات راقية. بل ليبصر هو فيختار موضع الإيقاع بضحيّته. هو إجبار على أن يخالط عبد السلام مكرها ناس الدّهاليز وحابكي المؤامرات وأهل الأحابيل. ولكنه مجبر لا مختار. والتاريخ يعود مرّة أخرى بمكره ليذكّرنا بما يفعله الصهاينة مع حكامنا حين يوقعون بهم في الشهوات ثمّ يجهزون عليهم وعلى البلدان. إنّه التاريخ مرّة أخرى...

إنّه التاريخ المارق السّارق يعود ماكرا على يد "أبرهام " بينما أمسك النحات عبد السلام بالمطرقة والإزميل لينحت للبشرية عامة وللعرب بصفة أخصّ واقعهم. وليس لينحت التماثيل وليخلق الجمال ولكن ليكسر الأبواب المحصّنة ويسرق حضارة أمم وينسبها زورا وبهتانا لقوم ممن استعملوه فطاوعهم." ولم تطل نظرته الثاقبة، وقد أدرك أنّه يقف الآن أمام حضرة تمثال ملك مدينة حلب، أقدم مدينة سكنيّة قائمة، وما زالت مأهولة في العالم: "حدد"، وهو نفسه الإله الآموري الآرامي: "بعل"، إله المطر والحرّيّة، حيث يُمسك بيده اليسرى سنابل القمح، يتوّج رأسه بها، ويرفع باليد اليمنى شعلة الحرّيّة الساطعة." (ص 281) وعلى إيقاع الذكرى والتذكّر يتوهم عبد السلام أنّه يفعل وهو في الحقّ منفعل كباقي أفراد هذه الأمة التي توشك أن تتلاشى. يتذكّر عبد السلام ما قاله له أبو الرّمز في كلمات" تخترق ذاكرته" "إنهم يزيفون كلّ شيء يا عبد السلام . يسرقون تاريخنا القديم"(ص281)..يا للتاريخ العقيم الذي لا يسعفنا إلاّ بالذكرى ! يا لهذه العودة العقيمة الماكرة التي تسدّ علينا أبواب الانتقال إلى عهد جديد سعيد ! لم يسمح هذا التاريخ لعبد السلام في دهليز "أبراهام" إلاّ بتذكر حقول مجدل شمس في فلسطين السّليبة وتضيء في ذاكرته "المصدومة" صورة الشاش الفلسطيني " ولبرهة خاطفة، يتهيّأ له أنّ رأسَه ملفوفٌ بشاش أبيض وعليه بعض البقع الحمراء، وقد تخثّر الدم النازف على جبهته، وخدَّيه، إذْ لم يكن جسد التمثال الذي يملك وجهاا بريء " ص 283. ألم يبق لنا يا "عبد السلام "غير الذّكرى نلوكها؟؟

ولكننا, في نهاية المطاف, لا نعدم في دهاليز هذا التاريخ المليء بالأحقاد والضغائن, إننا لا نعدم بعض رموز تتجاوز ببنائها سجن التاريخ العائد في حلقات تكرر نفسها برتابة مثيرة للغثيان, هي رموز كثيرة عجت بها صفحات الرّواية ولكنّ الرمز المنظم لباقي  الرموز الأخرى هي تلك الثنائية المؤلّفة من روح البتول التي تجاوزت التاريخ باستشهادها وأمست فكرة تسكن العقول والأفئدة ويقابلها تماثيل عبد السلام وما سبق عبد السلام من تماثيل عديدة تشي بالخلود والرفعة والامتناع عن التلاشي. 

في رمزيّة البتول إشباع قيمي وحشد من المثاليات يجعل الفكرة تنتصر في الجولات الأخيرة على مكر التاريخ الذي حبسنا في هذا التناطح الأبدي الذي لا ينفك الحماس يكبر والرغبة في تكرار تلك المعارك المحارق تتعاظم. إنّ هذه الثنائيّة إعادة لقصة الخلق(البتول : روح وفكرة. والتماثيل صنو الصلصال مادة آدم). فهل نستطيع إلى الخلق سبيلا؟

إنّ "قيامة البتول" ورغم أنّ أحداثها تدور في الشرق الأوسط وفي الفضاء العربي إلاّ أنها في النهاية مأساة الإنسان في الوجود.  

إنّ المسألة في النهاية مسألة قيم وشيم. فلا ندري هل جعل عبد السلام في نهاية الرواية التاريخ يعيد حلقاته المعلومة سلفا وهي التي لم تف بوعودها؟ أم إنّها حركة نبيهة من نفس كريمة تجبر الآخر على أن يتدارك تاريخه الماكر؟

 



الاسمبريد إلكترونيرسالة