بدأتُ خلال السنة الجديدة قراءة رواية أرض الإله تحديدًا يوم ١٣ من شهر يناير لعام ٢٠٢١ م حيث رُشحت ليِّ ، كتبتُ تفاصيل البداية لأننى مولعة بتدوينها أيضًا لأنها التى تأخذنا وتجرفنا بين الأزمنة ولحظات عمرنا المختلفة.
في الحقيقة لقد غرقتُ في رواية شديدة الإمعان في التاريخ المُتخيل بشكل جزئي والنص القصصي بالغ الأثر ،فكلّ قصة لنبي ذكرتُ في القرآن الكريم أو التوراة أو الأنجيل لهدف ولتخليد الأثر، فمّا أبلغ التاريخ والتفسير القصصى لضرب المثل، من هنا تكمُن البداية حيث يمكن خلال التأثر بالقصة الدينية أن يقتنص الكاتب رؤيته الخاصة داخل نفسه لسبر أغوار خياله مع الحقائق ليخرج في النهاية برواية متماسكة سرديًّا ومُحققة للمتعة ومصاحبة للإفادة وذلك لن يتحقق إلا إذا كانت القراءة مُخلصة وعميقة في ذاتها. بدأ مراد بحقبة زمنية خلال ربيع ١٩٢٤ م بعدها حدد المكان "مَبنى القنصلية البريطانية بالقاهرة" تلك التفاصيل كانت قادرة علي سحبى لعالم السحر المكاني لأننى اعتقد إن التاريخ كلما عتقناه كلمّا فاحت رائحة الشذي منه ، ألم يقل الشاعر "أعتق الحب في قلبي وأعصره " إذا كان الحب المُعتق هو الحبّ الأخلص والأصدق في عنفوانه ،فماذا عنّ رواية مزجت التاريخ القديم بل بالغ القدم بآخر نتمنى أن نعيشه مرة أخرى ؟ بالتأكيد سيكون تأثيرها ساحرًا لأن هذا يسمي بـ "صراع الأزمنة " الذي يخلق المتعة داخل البناء السردي؛ليشعل في عقل القارئ التشويق لمتابعة أحداث الرواية حيث ينقلنّا للمكان المُتخيل جزئيًا ، سمنود معبد الأسوار السبعة - ٢٥٠ عامًا قبل ميلاد المسيح ؛ليغرقنا نحنُ القراء فى وصفه المستفيض حيث الموجودات والدقة في اختيار مسميات أصوات الطبيعة " ... رغم الصيّف القائظ تراكَمَت السّماء بالغُيوم الدَّاكنة ، ثم انهالت الأمطَار، غزيرة صاخبة مَصحُوبة بهَزيم رَعد يصم الآذان،حتَّى امتلأت تجاويف الأرض ببِرك صَغيرة ولَمعَت أحجَار المَعبد العتيق في بهاء ورَهبة " ص١١.
المتأمل يستطيع أن يستنبط الحقيقة المُتجلية خلال قراءة الرواية؛ لأن اللغة كانت قادرة على خلق الجو الملائم لزمن الرواية حيث اختيار المعاني والألفاظ المحددة المناسبة للحظة الآنية داخل النص ،أضف إلي ذلك القدرة علي استلهام طاقة الخيال السرمدية من باطن الكاتب ، حتى في وصفه للتاريخ ،كانت اللغة بدراميتها العامل المساعد له بل العامل الأول فالمفردات والمعاني التى استخدمها داخل النص لم تكن اعتباطية ، حتى إنه أقر بمدي أهمية اللغة على لسان الشخصية التى خُلقت من وحي خياله " كاي " الكاهن المُطهر الذي يعتنى بشئون النظافة والسقاية ، ثم تعلم الكتابة حتى بلغ مرتبة كاهن " مُجنَّح " منها إلي مُترجم للبرديات التى عثر عليها ،منها إلي خلق شعور أهمية اللغة داخل نفس القارئ المُبحر في عالم خياله حيث قال كاي :" اللغة وعاء العلم، إن نخرتها الثقوب تساقَط منها تاريخ الأمم " هذا التناسق داخل النص في استخدام اللغة لم يجعلنا شاردين مشتتين داخل العالم البعيد،بل العكس صحيح جعلتنا نُفكر بصوت عالي عمّا سيحدث لنشعر بطعم الكلمة في جوف عقلنا،هذا مبلغ المراد الذي حققه مراد في روايته الخامسة "أرض الإله " .
أمَّا العامل الثاني هو الموروث الثقافي المُستلهم من التاريخ والجزء المناصف له المُستلهم من الدين ، حيث شيد البناء مرتبًا بشكل صحيح الا أننى شعرت بهزةٍ أرضية جعلتنى أحس بالخلل ،حيث بدأ مراد بزمان ١٩٢٤ م منه إلي ٢٥٠ عامًا قبل ميلاد المسيح غرقًا في قصة الموروث الديني لنبي الله موسي وفرعون ووزيره هامان وخروج الأحلاف منه إلي الزمن البعيد الحاضر داخل فضاء الرواية المترابط مع حكاية الشخصيات داخل السرد " كاي -ناديا - آرام " منها إلي نبوة موسي وفضح فرعون " فشعرت باحتياجي لومضة "أي عنوان إشاري " يجعل عقلي ملاحظ للتغيرات وتوزيعها دون الشعور بالتوتر الذى جعلني دون إرادة منّى أقلب الورقة مرة ثانية؛ للتأكد من رقم الرحلة الزمنية التى استقليتُ سجادتها السحريّة،رغم ذلك فالترتيب الزماني ونقص الأشارات التوزيعية له لم يؤثر علي السحر الطاغي علي عقلي؛ لأن خيال الرواية كمّا صرح كاي لناديا :" لا يُستهان به " لأنه جعل الذكريات تهجم علي عقلي ووجداني فجائتنى "ذكريات الجامعة" بمقالة كنتُ قد قرأتُها خلال مرحلتي الثانية هي صميم الرمز القصصي الذي استعان به مراد بحرافية داخل روايته ،حيث مادة الفكر الإسلامي التى تهتم بالتمعن في معني المعنى للآيات القرآنية،كانت المقالة تدور حول موريس بوكاي العالم الفرنسي الذى أشهر إسلامه عندما فحص مومياء رمسيس الثاني الماثلة أمامه؛ ليشرح عملية التحنيط التى يستخدمها القدماء المصريين في تحنيط أمواتهم وغيرها ،للحظة شعر العالم الفرنسي إن المومياء التى مكث يفحصها في غرفته لوقتٍ طويل آية الزمان كان اهتمام ( موريس بوكاي) مختلفا للغاية عن بقية اللجنة التى تسلمت المومياء المرسلة من مصر إليهم ،حيث كان يحاول أن يكتشف كيف مات هذا الملك الفرعوني ؟ وتسرد المقالة المُدرجة في نهاية الكتاب الذى قرأته في تلك المادة ،أنه في ساعة متأخرة من الليل ،ظهرت نتائج تحليله النهائية التى سهر عليها لشهور، كانت بقايا الملح العالق في جسده (أى المومياء) أكبر دليل على أنه مات غريقًا! شهق الرجل لحظتها وقد قال ذلك في المؤتمر الذى أشهر فيه إسلامه،إنها جثة لملك مات غريقًا،ولم يُذكر هذا الملك الا في قصص المسلمين،وقتها طلب قرآن ليقرأ عن هذا الملك فكانت الآية في سورة يونس ٩٢ قال تعالي :" فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ " نلاحظ أن النهاية في الرواية لم تكن مغايرة أيضًا لم تجعل القارئ مقيد بالمعلومات المأخوذة من الرواية فحسب ، بل تجعله يستحضر القصة من صندوق المحفوظات الغارق في أتربة التغافل والنسيان بعقله، وحقيقة الأمر الرواية عمل إبداعي متكامل الأركان ، خصوصا أنها الرواية الأولي للكاتب التى استعان فيها بالفصحي دون اللجوء إلي العامية .
إضافة إلي ذلك ننتقل إلي الفضاء المكاني المُلغم بالوصف البارع الذى استخدم فيه مراد امكانياتة بوصفه مصورًا ، كل نقلة وصفية جعلتنى استشعر لحظة مختلفة عن السابقة ، يقول جاستون باشلار عن أهمية المكان في كتابه الفلسفي عن المكان ،ودوره في تشكيل خيال المُبدع الممعن في رسم الصورة بالقلم ،وتوظيفه للخيال في الوثائق الأدبية أي الرواية والشعر والقصة والعديد من الأجناس الأدبية المختلفة "... أن وعي كوننا في حالة سلام،في ركننا ،يولد احساسًا بالسكونية وهذا الاحساس بدوره يشع سكونة مثل حجرة خيالية ترتفع وتحيط بأجسادنا .. وحين نأوى إلي ركننا ".
تولد الاحساس الأول للرغبة في الهروب إلي مدينة الاسكندرية حيث البرديات ".. الإسكندرية: المدينة التي لم يزُرها كاي يوماً.
عن زُرقة البحر وروعة الفنار، الشوارع المُقسَّمَة كرقعة الشطرنج، الرخام الأبيض الذي يكسو المباني والستائر الخضراء المُوحّدة التي يُحرِّكُها الهواء. الجمنازيوم الفخم والمكتبة العِملاقة وضريح الإسكندر المُبِهر وكَفَنه الذهبيّ..." شعرتُ بدقة الحركة والوصف والرسم الذي يستدعي الشعور بأهمية المكان في خلق الحالة النفسية للشخصيات من المكان المغلق بالهموم هروبًا لمكان مفتوح حيث الشغف ،وتصاعد الأحداث التى تصعد بشخصيات الرواية والقراء، ثم إلي مشهد أخر هو المأوي الذي استكمل فيه كاي ترجمة البرديات التى تكشف قصة نبي الله موسي في الحانة بأزقَّة إليوسيس " عبر حي دلتا وتوغل في أزقّة إليوسيس حي محمي بقانون سُنَّ لمَنع الشباب من إغواء الزوجات المُهملات بعدما تفشي حب الغلمان في قلوب الرجال ،تتناثر البغايا من كل الألوان فيه، يفترشن عَتبات مُعلقًا علي أبوابها منحوتات ..." حي دلتا الذى يسكنه اليهود أمّا حي راقودة يسكنه الچيبتيون .
تقسيم المكان في الرواية كان أخاذ خصوصا الوصف المذكور عن مكتبة الاسكندرية الذى اساسها في ذلك الوقت بطليموس الأول :" انتفض كاي قائمًا ،سألاً زميلا له في الملجأ عن المكتبة الكبيرة فأرشَده، سار في شوارع المدينة الصَّاخبة قبل أن يقف مشدوهًا أمام الأبنية البيضاء الهائلة والعمود الضخم الذي يعلوه تمثال لبطليموس الأول مزين بالأحجار . صعد كاي علي السلالم اللانهائية حتَّى قابله حارس سأله عن هويته فأجاب:مُحب للقراءة وأبغي الاطلاع. مَسَح الحارس هيئته ثم ضيق عينيه: المكتبة لا تستقبل المُشرَّدين ..." إلى نهاية الرحلة التى ركبنا من خلالها السجادة السحرية لنحلق داخل فضاء الرواية لنشاهد بقية الأماكن؛ مثل : معبد أون ،وأزقة إليوسيس ، منطقة مدين ، سوق هوارة ،معبد سمنود،أرض الفيروز ... " أضف إلي ذلك النهاية الزمانية نوفمبر عام ١٩٢٢حيث اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون علي يد الأثري الإنجليزي "هوارد كارتر " لتظهر الأشارة الرمزية التى يفك شفرتها القارئ ؛ليستدل إن التاريخ يسير في حركة دوران مع اختلاف متغيرات الزمان، الحقيقة أن المقال حاولتُ من خلاله التركيز على اللغة والزمان والمكان بشكل مؤجز ؛لأن من وجهة نظرى النقدية المتأملة رأيتُ أن الكاتب أحمد مراد في رواية أرض الإله حقق مراده على عدة أصعدة أولا المتعة والاستمتاع وثانيا إعمال عقل القارئ لينفض عن عقله غُبار الأتربة عن القصص المحفورة داخله ليستعيد الماضي في قالب قصصي مُشوق ، ولاسيما عن الطريقة التى يعبر فيها عن الحبِّ الهارب الذى نمتلكه للحظات ليهرب منّا حتى نهاية العمر حيث موت "ناديا " هنا جعلتنى اللغة أتذكر مقطوعة إندلسية ؛لأن الرواية استشعرت فيها لمحة من الأدب إندلسي لا أعرف سببها .ترنمت بالمقطوعة فيروز ووديع الصافي :
" إذا كان ذنبي أن حبّك سيّدي..
فكل ليالي العاشقين ذنوب
أتوب إلى ربي وإني لمرة يسامحني ربي.. إليكِ أتوب " منصور الرحبانى .
في النهاية الرواية جعلتنى استدعي عدة معلومات ومجموعة مشاعر مختلفة؛لأن مضمونها وفكرها مختلف يستحق أن نحتفظ به في عقولنا "أنت روح تستحق الجهد.. أحمد مراد " .

